الأزمة السودانية:
دخلت الحرب في السودان شهرها الثاني، في عامها الثاني، مخلفة وراءها الموت، وانتهاك الأعراض، واستباحة الحرمات، ونهب الثروات، والدمار الشامل للمرافق والمؤسسات، والبنية التحتية للدولة، فخرج أهل السودان ينزحون من مدينة إلى أخرى، يفترشون الأرض في المدارس والجامعات، والأماكن العامة، لا عائل لهم، ولا معين. وصار بعضهم لاجئاً في دول الجوار فتقطعت بهم السبل والأسباب.
إن الحرب في السودان ليست بدعا مما يحدث في بعض بلاد المسلمين من حولنا؛ في ليبيا، أو في اليمن، أو في سوريا، أو غيرها، ولفهم ذلك نوضح النقاط الآتية:
إن المبدأ الرأسمالي الذي يحكم قبضته على العالم اليوم، قد قسم الدول إلى قسمين؛ دول مستعمِرة تتصارع على ثروات العالم؛ وهي أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وبقية الدول الأوروبية، وروسيا. ودول مستعمَرة غنية بثرواتها، تشكل المسرح العبثي الذي يدور حوله الصراع، والذي وقوده أهل البلاد!!
إن الاستعمار هو طريقة المبدأ الرأسمالي لحمله إلى الآخرين، وهو يعني “فرض الهيمنة العسكرية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو الفكرية، أو الثقافية على الشعوب، لتحقيق أهداف المستعمر ورغباته”.
إن ما يحدث في السودان هو صراع استعماري دولي، مسرحه السودان، فالاستعمار الإنجليزي له جذور في الوسط السياسي، وفي الأحزاب، والقوى السياسية، والحركات المسلحة. والاستعمار الأمريكي كذلك له رجاله في الدعم السريع، والقوى المسلحة. وقطبا الاستعمار؛ أمريكا، وبريطانيا يصطرعان على النفوذ في السودان بأدوات محلية وإقليمية. وأساس هذه الحرب هو وجود جيوش معترف بها من قبل القوى العسكرية والقوى السياسية، وهذا من ناحية شرعية مخالف للإسلام فلا يجوز، ويجب أن تكون هناك قوة مسلحة واحدة في الدولة. ومن ناحية واقعية، فلا يوجد في أي دولة محترمة في العالم جيوش متعددة!!
أطلقت أمريكا شرارة الحرب في السودان، لإبعاد القوى السياسية المرتبطة بالسفارة الإنجليزية؛ وبخاصة قوى الحرية والتغيير (قحت)، وإقصائهم عن كراسي الحكم التي أصبحوا قاب قوسين منها أو أدنى.
إن أمريكا بوصفها الدولة الأولى في العالم، تلزم بقية دول العالم بأن تسير في المنحى الذي تسير فيه، لذلك فإن أمريكا بدأت مباشرة في المساواة بين الجيش والدعم السريع بعد ثلاثة أيام من نشوب الحرب، حيث اتصل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من اليابان يوم الثلاثاء 18/04/2023م، مع كل من البرهان وحميدتي، وفقا للمتحدث باسم الخارجية الأمريكي فيدانت باتيل، مشددا على ضرورة التوصل إلى وقف لإطلاق النار، ثم سارعت أمريكا بإطلاق منبر جدة، وجعلت أجندته تتمحور حول نقطتين لا غير هما: وقف إطلاق النار، وإدخال ما يسمى بالمساعدات الإنسانية.
إن أمريكا تريد استمرار الحرب، حتى تحقق غايتها في إبعاد القوى التي تمثل الاستعمار الإنجليزي، وعبر منبر جدة، تعيد إنتاج الدعم السريع مرة أخرى، عبر سلطة ديمقراطية بائسة، تعيد إنتاج الأزمات تلو الأزمات.
إن الاستعانة بالأجنبي إنما هي انتحار سياسي، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، فالحل ينبع من الداخل.
الحل ينبع من الداخل:
إن (الحل ينبع من الداخل)، ليس المقصود بالداخل السودان أي الحدود التي رسمها سايكس وبيكو، فنحن لا نتحدث عن حل وطني لهذه الأزمة، لأن الوطنية ليست فكرة مبدئية تحمل المعالجات للأزمات، بل هي مشاعر منحرفة، ورابطة عاطفية.
إن الداخل الذي يعطي الحل والمعالجات للأزمات، إنما هو عقيدة الإسلام العظيم، التي مكمنها صدور المسلمين، فالإسلام عقيدة وأنظمة حياة، ودين ومنه الدولة.
جراء عيشنا عقوداً من الزمان تحت ظل الأنظمة الغربية، تبلور ذوق الناس على معالجاتها ومنهجها في رفع الخصومات، وفض النزاعات المبني على الحل الوسط، فالحضارة الغربية لا تؤمن بأن هناك حقاً مطلقاً، وإنما الحق نسبي كما يقولون، لذلك عند فضهم للنزاعات يأخذون من هذا الطرف ومن ذاك تنازلات حتى يتوافقوا على الحل الوسط، وهذا منهج باطل يناقض منهج الإسلام الذي يؤمن بأن هناك حقاً، وهناك باطلاً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء: 60-65].
لقد أثارت هذه الحرب الجهويات، والقبليات، وهذا الداء لا علاج له إلا في الإسلام، فهو وحده، على مدار التاريخ الإنساني، الذي استطاع أن يجمع الناس في أمة واحدة، ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 63].
إن معالم الحل الذي ينبع من عقيدة الإسلام العظيم هي:
أولاً: نحن مسلمون ولسنا سودانيين، والإسلام الذي نعتقد هو عقيدة ومنظومة متكاملة لأنظمة الحياة والتشريعات، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ [المائدة].
ثانياً: إن السيادة للشرع، وليست للشعب، فالمسيّر لإرادة المسلم في الحياة هو الحكم الشرعي لا غير.
ثالثاً: إن السلطان للأمة؛ أي لها الحق في نصب الحاكم، وليس لمن يملك القوة والسلاح والعتاد، فقد جعل الشرع نصب الخليفة من قبل الأمة، وهو واضح في أحاديث البيعة، عن عبادة بن الصامت قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ» متفق عليه، وعن جرير بن عبد الله قال: «بَايَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَاماً لا يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَاهُ إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا» متفق عليه. وسلطان الأمة هذا مغتصب منذ عقود.
رابعاً: إن القوى المسلحة قوة واحدة، هي الجيش، وتُختار منها فِرَقٌ خاصة تُنظَّم تنظيماً خاصاً، وتُعطى ثقافة مُعيَّنة هي الشرطة. فالثابت أن الرسول ﷺ كانت القوى المسلحة عنده هي الجيش، وأنه اختار منها قسماً يقوم بأعمال الشرطة فَجهَّز الجيش، وقاد الجيش، وعَيَّن أُمراء لقيادة الجيش. روى البخاري عن أنس: «إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ ﷺ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنْ الْأَمِيرِ» ولا يسمح على ضوء أي اتفاق بوجود قوى مسلحة أخرى بجانبها، ولو ليوم واحد، أو لساعة من نهار.
خامساً: من حملوا السلاح في وجه الدولة، يدّعون مظلمة، أو قضية، وتحيّزوا في مكان، وجبت مجابهتهم والقضاء عليهم، وقبل أن تُقاتلهم تراسلهم الدولة، وترى ما عندهم، وتطلب منهم الرجوع إلى الطاعة، والكفّ عن حمل السلاح، فإن أجابوا ورجعوا كفّتْ عنهم، وإن امتنعوا عن الرجوع، وأصَرّوا على الخروج والمقـاتلة قاتلتهم قِتال تأديب، حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويتركوا الخروج، ويضعوا السلاح. وكل ذلك يجب أن يكون دون أي تدخل خارجي.
سادساَ: إن كرسي الحكم ليس مكاناً لأكابر المجرمين من القتلة، وسفاكي الدماء، بل هو محل الأخيار الأطهار، الأنقياء، الأتقياء، يحمون البلاد، ويحفظون الأنفس، والأموال، والأعراض، لأنهم يدركون أن الحكم مسؤولية وأمانة، ويشترط أن يكون مِن أهل الكفاية والمقدرة على القيام بما وُكِل إليه من أعمال الحُكم، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ ﷺ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» (رواه مسلم).
سابعاً: إن نظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة، وليس النظام الديمقراطي العلماني الذي يفصل الدين عن الحياة ويجعل التشريع للبشر بدلاً عن رب البشر القائل: ﴿إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
ثامناً: إن المسلمين أمة واحدة من دون الناس، والذي جعل حربهم ليست واحدة، وسلمهم ليست واحدة، هو فكرة الوطنية، فأمريكا التي أطلقت منبر جدة هي نفسها أمريكا عدوة الإسلام والمسلمين، فإن لم نتعظ بموقفها من أخوتنا في غزة فمتى نتعظ؟!
إن الاقتتال بين المسلمين هو ما تعمل له الدول المستعمرة الآن، فيا أهلنا في السودان، وخاصة الجيش والمقاتلين.. كيف تقتتلون فيما بينكم لمصلحة الكفار المستعمرين.. تقتلون أنفسكم، وتدمرون بيوتكم، وتنتهكون حرماتكم؟! كيف تنسون قول رسول الله ﷺ الذي أخرجه البخاري، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»؟! فكيف إذا كان هذا الاقتتال لمصلحة الغرب الكافر وأعوانهم؟! إنها إذن أدهى وأمر.
وختاما: فإن مشروع الخلافة هو وحده القادر على كسر أغلال الاستعمار الغربي، واقتلاع جذوره، من بلاد المسلمين، باستئناف الحياة الإسلامية، وتطبيق الإسلام، وحمله إلى العالم. وإننا في حزب التحرير لدينا تصور تفصيلي لمعالجة جميع الأزمات والمشكلات، التي نتجت جراء عيشنا عقوداً من الزمان تحت وطأة الحضارة الغربية، بل ولدينا تصور تفصيلي للحياة الإسلامية التي نسعى مع الأمة لإيجادها، فكونوا أيها المسلمون، لأجل عقيدتكم عاملين، ولدين ربكم ناصرين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
الخميس ٨ ذو القعدة ١٤٤٥
٢٠٢٤/٠٥/١٦م
إبراهيم عثمان (أبو خليل)
الناطق الرسمي لحزب التحرير
في ولاية السودان