علي عسكوري.. يكتب الاقتصاد الدعوة للعقلانية

*الإقتصاد .. دعوة للعقلانية*

على عسكورى

١٩ يناير ٢٠٢٣

تزداد معدلات الفقر، يهرب الشباب عبر البحار، تهاجر الكفاءات، تتسع الشقة بين الأغنياء والفقراء، تعجز الدولة عن النهوض بواجباتها في الأمن والخدمات حني يكاد دولاب الدولة ان يتوقف، ينهار التعليم الاساسيي والصحة الأولية، يهرب رجال الأعمال والمستثمرون، تضعف مؤسسات الدولة مدنية كانت م عسكرية وتعجز الدولة حتى عن تنظيف عاصمتها، ينتشر المتسولون في الشوارع، تتآكل الطرقات حتى يصبح السير عليها معضلة، تزداد حالات الطلاق وتتفكك الأسر وتضعف الروابط الأسرية والاجتماعية، تزداد حالات التذمر بل التمرد وسط المواطنين والكل يجأر بالشكوى، تتصاعد معدلات الجريمة في النهب المسلح والمصلح، ينتشر الغش في السوق والفساد في دولاب الدولة، تنتشر كارثة المخدرات وسط الشباب من الجنسين….. كل ذلك يدور والمجتمع ينهار ولا مجيب! والقوي السياسية (إن كانت موجودة) غارقة في بؤسها وجدلها العقيم بينما الأرض تمور من تحتها، وقريبا لن تجد وطنا تتصارع عليه.

أتاحت ثورة ديسمبر فرصة تاريخية لمعالجة أزمة حقيقية ظلت تواجه البلاد منذ حوالي أربعة عقود أفضت إلى تدهور مريع في الاقتصاد ومن ثم الواقع الاجتماعي والسياسي قاد الى الأزمات التى اشرنا إليه أعلاه.

إذن… ما هي تلك المشكلة التي دخلت فيها بلادنا منذ أربعة عقود وقادت إلى ما قادت إليه؟

في العام 1983، أعلن الرئيس الراحل جعفر نميري فجأة ما اسماه قوانين الشريعة الإسلامية، وبناء علي ذلك القرار المرتجل أتخذت خطوات وسياسات جزافية لما أسموه اسلمة الاقتصاد بكامله. حدث ذلك دون أدنى دراسة أو نظرية متكاملة يبني عليها ذلك التحول الجذري في اقتصاد البلاد، وبالطبع لم تقيّم تبعات ذلك القرار المرتجل علي العباد والبلاد والمجتمع و حياة المواطنين.

 بناء علي ذلك القرار منعت سلع كثيرة كانت الدولة تجني منها عوائد ضريبية طائلة تصرفها في دعم الخدمات. لم يهتم الذين أعلنوا تلك القرارات بالنظر في البدائل ومدى تأثير ذهاب تلك العوائد علي حياة الناس! هكذا جزافا قرروا ما قرروا ولأكثر من أربعة عقود فشلوا في إيجاد بديل يعوض الدولة تلك العوائد وأصبحت الدولة مواجهة بفرض الأتوات والرسوم والضرائب علي الفقراء، رغم ذلك لم تنجح. يضاف لذلك أن نشاطات اقتصادية كثيرة وأعمال أخري مرتبطة بتلك السلع اندثرت، وهكذا للمرة الثانية فقدت الدولة عوائد كبيرة دون وجود بديل. ورغم ذلك لم يقف أصحاب القرار ليسألوا كيف يمكنهم إيجاد البديل لتلك العوائد في دولة ومجتمع فقيرين، او حماية موارد الدولة من التدهور والتناقص.

أما الضربة الثانية التى تلقاها الاقتصاد فقد جاءت فيما سموه اسلمة النظام المصرفي بكامله. مرة أخري دون وجود مرجعية نظرية متكاملة تستند عليها السياسة الجديدة. وكنتيجة لذلك هرب رأس المال الخاص وأصبحت البنوك التجارية اكبر مضارب في السلع والخدمات بدلا من تمويل رجال الأعمال الناشئين والمبتدئين لخلق وظائف في الاقتصاد، وتوقفت البنوك عن تمويل النشاطات المنتجة طويلة الأمد وأصبح تمويل التجارة للتخزين أو الصادر هو النشاط الرئيسي للبنوك. ومع هروب رأس المال وتآكل رؤوس أموالها اضطر بنك السودان للسماح للبنوك التجارية بزيادة تكلفة رأس المال (التمويل) أضعافا مضاعفة إذ تصل حاليا الى حوالي 30% كأعلى معدل في العالم (بمعنى آخر مقابل كل 100 تستدينها من البنك تدفع 30 جنيها).

ومع اسلمة الاقتصاد بالقوة ودون وجود مبادئ نظرية واضحة وضابطة، حدثت ربكة في إدارة المال العام وضعفت إيرادات الدولة وتدهورت، فلجأت الدولة لفرض الضرائب علي العامة من الفقراء، فتدهورت حياتهم وازدادوا فقرا، بل سحقت الغالبية منهم. وبهروب رؤوس الأموال كنتيجة للفوضى في إدارة الاقتصاد قلت فرص التوظيف للشباب بل كادت تنعدم، ولذلك ليس مستغربا ان يظل الشباب في حالة تفكير دائم للهروب من البلاد والبحث عن مستقبل أفضل في بلاد أخري.

من نافلة القول، أن الاقتصاد ليس من المجالات التي ينفع فيها الشطط أو التطرف والتشدد ولا هو بالمجال الذي تستخدم فيه القرارات الانفعالية المرتجلة، كما لا يجب أن يخضع الاقتصاد لايدولوجيا متطرفة يمينا كانت ام يسارا لأنها تدمره وتخل بمقومات النشاط الإنساني القائم علي المبادرة الذاتية، وقد جربت دول المعسكر الاشتراكي (سابقا) التطرف في تطبيق الاشتراكية فأقعدت نهضتها لأكثر من نصف قرن وهاهي الآن تحاول ان تتلمس طريقها لتلحق بالدول الأخرى. مثل ذلك حدث في الصين أيضا، فانتبهت لأحوالها وفقر مواطنيها ففتحت اقتصادها فتحولت في اقل من ثلاثة عقود الي قوة اقتصادية جبارة يتوقع ان يصبح اقتصادها الأكبر عالميا في اقل من عقد من الزمان.

الآن علينا أن نعترف جميعا – خاصة الاسلاميين – أن السياسات الاقتصادية التي طبقت منذ العام 1983 أضرت ببلادنا وقادت لتدهور في الدولة والمجتمع وزادت من الفقر والانهيار والتخلف وقد آن الأوان لمرجعتها وتصحيحها لأن الاستمرار فيها يعنى الإصرار علي الخطأ. فواقع الحال يقول أن طبيعة اقتصاد بلادنا حاليا غير معروفة فلا هو اقتصاد رأسمالي ولا هو اقتصاد إسلامي رغم أنى لم اعثر علي نظريات كلية لإدارة الاقتصاد من كتاب ومنظرين إسلاميين ولذلك يجب الا يمارس الإسلاميون (الحلاقة في رؤوس اليتامى) كما يقولون!

إن الإقتصاد في جوهره علم حساب، ولكل سياسة تتخذ فوائد وتكاليف، ولا يمكن إدارة الاقتصاد بالهتاف والشعارات والايدولوجيا المتطرفة، فالأماني شيء وواقع الحال شيء، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وافقار المواطنين وتحميلهم فوق طاقتهم وسوقهم الى العنت والمسغبة أمر يسأل الله منه القائمين علي الأمر، والدين يسر وليس تشددا وهتاف وتحميل الفقراء ما لا يطيقون.

إن الأمانة تقتضي الاعتراف ان ليس بوسعنا حاليا بناء الدولة التي نرغب فيها، علمانيين كنا ام إسلاميين، واننا حاليا نحتاج الي قدر كبير من الحصافة السياسية والمرونة والذكاء وأخذ واقع مجتمعنا في الحسبان، فنحن الآن لسنا في وضع يمكننا من بناء شيء خاص بنا، إنما يجب أن تقتصر مهمتنا علي توفير القوت للناس، لا أن نحبس الناس جوعي من اجل شعارات متوهمة ما حافظت علي نظام موروث ولا نهضت بآخر جديد، وفي الإسلام متسع لذلك، فتجويع عباد الله أمر لا يقبله الخالق وفي الذكر الحكيم قدم المولي الطعام علي الأمن (الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) سورة قريش.

لكل ذلك أصبحت هنالك ضرورة ملحة أن يتوافق الناس علي بدائل اقتصادية توفرا مواردا جديدة للدولة وتضخ النشاط في شرايين الاقتصاد وتوائم اقتصاد البلاد مع الاقتصاد العالمي وهو أمر لا مفر منه إن كنا نتحدث عن الاستثمار وخلق الفرص، فبلادنا غنية بالموارد وإنما الأخطاء في السياسات والتطرف الأيديولوجي المتوهم و هو ما قاد إلي سوء إدارة الدولة.

إن من يعيش في مجتمع الخرطوم يدرك حجم الفساد المالي والأخلاقي والدرك الذى وصل إليه المجتمع، المدخل لإصلاح كل ذلك يبدأ بإصلاح الاقتصاد ومحاربة الفقر والعوز والحرمان وذلك من خلال توفير موارد إضافية للدولة كانت موجودة في السابق، وبالنظر لكارثة المخدرات التي تفتك بالشباب من الجنسين اعتقد أن بعض الشر أهون من بعض! ومن يتذكر أخلاق مجتمع السودان في ستينات وسبعينات القرن الماضي يعرف أنها كانت فوق الشبهات، وقد آن لنا أن نستدرك أمرنا قبل الطوفان.

 

قد يعجبك ايضا
الموجز السوداني
error: Content is protected !!