عثمان فضل الله يكتب .. الفشقة.. شاي العسكر ما بتسكر .. أكثر من درس وأكثر من رسالة (1- 2)

أمامهم عدد من المدافع وكثير من القش، الذي يعد مصنعا عالي الإنتاجية لجيوش الباعوض والناموس والحشرات، وبمعيتهم قليل من الزاد، في عيونهم تصميم، لم تخفه حالة الرهق البادية على سيماهم، هم موجودون في هذا الموقع منذ عام أو يزيد، ومستعدون للبقاء مدى الحياة هكذا قالها أحدهم، “هو نحن شنو غير ندافع عن البلد دي”.
يشتكون كبقية أهل البلاد من غلاء الأسعار ومتطلبات الحياة، دعونا إلى كباية شاي، صنعوها لنا بحب كبير، مجموعة جنود يحرسون ثغرا من الثغور جلسنا معهم في أحد المواقع نستطلع أوضاعهم.. الفشقة لم يكن يوما عاديا، أو قل لم تكن مجرد ساعات أمضيناها هناك، وإنما كانت رحلة في تقلبات هذه البلاد ، ومفارقاتها. ذلك الاسم الذي بدأ يتردد في سماء سياسة السودان منذ العام 1995م عندما اجتاحتها مليشيات الأمهرا وباتت تقتل كل مزارع يقترب من أرضه فيها.
1995 ذلك العام الذي بدأت فيه نكبة السودان الكبرى عندما لجأ قادة النظام البائد إلى استخدام الأرض مقابل سلامتهم من الملاحقة في قضية، محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، فدفعوا الثمن حلايب وشلاتين والفشقة “أرضا حااارة” تزامن دخول القوات المصرية إلى حلايب والجيش الإثيوبي مرتديا ثوب المليشيا إلى الفشقة، وصمتت الخرطوم وتوارت خجلا لأن الاتفاق كما تشير الوقائع كان سحب القضية من منضدة مجلس الأمن مقابل الصمت، على استباحة الأراضي.
رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بصوت متهدج في خطابه بود كولي، بعد افتتاح الكبري تحدث قائلا” في العام 2017 دفعنا بقوة إلى ما بعد النهر وكان قرارانا أن تبقى تلك القوات هناك لتذكر الناس بأن هناك أرضا سودانية محتلة، غير أن تعليمات جاءت من الخرطوم بسحب تلك القوة” وأردف بصوته المتهدج أنا بعتبر القرار ده إهانة للقوات المسلحة”، وأعاد ذات الحديث في الاحتفال التكريمي في القضارف مردفا ” كانوا خائفين كانوا بخافوا من المجتمع الدولي وبخافوا من دبة النمل”.
لم يكن يوم الاثنين الماضي في تاريخ الثورة السودانية وعملية التغيير الجارية الآن يوما احتفاليا سيمضي هكذا وإنما يعد هذا اليوم الذي جاء ضمن برنامج احتفالات العيد السابع والستين للقوات المسلحة علامة فارقة تؤكد أن لا أمة موحدة قادرة على البناء من غير جيش قوي مهاب يخشاه الصديق قبل العدو، ولا جيش قوي من غير شعب يقف خلفه سندا وعضدا وسدا منيعا يحول دون محاولات إضعافه وركله واعتباره مؤسسة كيانات فضائية نازلة من المريخ.
فالذي قامت به القوات المسلحة في الفشقة على صعيد الإنجاز التنموي يعد كبيرا ففي ظرف 5 أشهر تم رصف طرق بلغ طولها 150 كيلو مترا بعضها أنجزت فيه ردميات بطبقات ثابتة وأخرى تمت معالجته بردميات مؤقتة، و تم تشييد جسر ود عاروض، والذي يمكن من اتصال أهل المنطقة بمزارعهم وأراضيهم دونما انقطاع عنها، وهو الهاجس الذي ظل يؤرق المواطنين هناك، فالجسر الذي شيد بأفضل المواصفات، ليس مجرد معبر وإنما يمكن اعتباره شاهدا على قوة السوداني عندما يصمم على إنجاز عمل ما، فلن تعيقه الإمكانات، تحدثت مع أحد المهندسين الذين شاركوا في إنشاء الجسر مؤكدا أن الجسر تم إنشاؤه في زمن يعد قياسيا وأردف قائلا” كنا نسابق الخريف” عندما بدأنا الردميات ونحن نعلم المدة المقررة لنا قبل أن يغلق الخريف المنطقة كانت قلوبنا في أيدينا أن لا نستطيع إنجاز هذا العمل الضخم وكنا كلما انتهت ” علبة وكلما ارتفع عمود ترتفع دقات قلوبنا واصلنا الليل بالنهار، زادنا حماسا حماس أهل المنطقة، وتعاونهم معنا، فكانت عبارة ح نقدر هي المسيطرة وفعلا استطعنا.. أما جسر ود كولي فتلك رواية يجب أن تخلد في سفر التاريخ هذا “جيش السودان” تم إنجاز الجسرين ولم يكتف سلاح المهندسين بهذا فقط لأن إنشاء جسرين على نهر عطبرة وحده ليس كافيا لتكون أرض الفشقة متصلة بالداخل السوداني فهناك 22 خورا في الخريف تمتلئ بالمياه، وبذات العزيمة وبالتزامن كان العمل جاريا فتم إنجاز تلك المعابر وسارت عليها عربات الوفود وفوقها طائراته. 22 معبرا جعلت الطريق سالكا من القضارف وحتى الفشقة طول العام .
نعم لتلك الجسور والمعابر أهمية مدنية وبعد عسكري استراتيجي، لكن إنسان المنطقة الذي عانى الإهمال طيلة العهود السابقة لم تكتف اليد التي حررت له أرضه وأعادته إليها بعد 25 عاما بل قامت بتأهيل 19 محطة مياه وإعادتها للعمل فتدفقت منها مياه الشرب معلنة بداية مرحلة جديدة في تلك المناطق للإنسان والحيوان، وفتحت مستشفى تبارك العسكري ليقدم خدماته للمدنيين والعسكريين فارتاح سكان الفشقة من وعناء السفر ومعاناة النساء في الولادة والحالات الحرجة.
لذا نقول وبعالي الصوت إن ماحدث في الفشقة وشاهدناه الاثنين الماضي ليس احتفالا فقط بافتتاح جسرين وصفه رئيس مجلس السيادة بالإنجاز البسيط واختلف معه رئيس الوزراء في الوصف وقال إنه إنجاز عظيم، ما جرى هو شيء مذهل وأقرب للخيال وذلك ليس وصفي وإنما وصف أهل المنطقة، عائشة أبكر تلك المرأة التي تحمل فوق أكتافها سنينا عجافا تركن أثرهن على بنيتها الجسدية سألت: رايك شنو في الاحتفال يا حاجة بالقول ” الحكومه كله هنا، زمان ناس حبشة ما قايلين عندنا حكومة الليلة قوليهم عندنا حكومة وعندنا جيش ولادنا ينوموا معانا يشليونا في عرباتهم يودونا “اسبتالية” نتعالج الليلة عندنا حكومة” كان هذا ردها نقلته دونما تصرف مني لأنه كان صادقا
ما حدث في الفشقة يكشف أن العزيمة هي ما نحتاجه لا المال وتوحيد الكلمة هي ما نحتاجه لا الإمكانات فالإرادة عندما تتوحد تجعل قوة الدفع كلها باتجاه البناء وتغيير حياة البسطاء ما جرى هناك نموذج يمكن أن يعمم على جميع قضاينا وفي جميع مناطقنا.
الطرق التي ربطت ود عروض وجبل أبو طيور ، جعل شرق البحر وقلب الفشقة مكانا واحدا ثم طريق ود عروض إلى منطقة الأسرة ثم طريق ود كولي حتى خور زراف ثم مجموعة طرق السندس وحنتوب إلى الفذرة وطريق بربر الفقرة إلى خور زراف، وطريق القريشة إلى تبارك الله قطاع أم براكيت، جعلت الفشقة مرتبطة بعضها ببعض ، ومربوطة إلى حد كبير بمدينة القضارف، تمت رغم أنه بحسب حديث رئيس مجلس السيادة عندما بدأ العمل فيها لم تكن هناك ميزانيات مرصودة ولا أموال معدة لكن هب القطاع الخاص وسخرت الإمكانيات البشرية قبل المادية لسلاح المهندسين فتم هذا الإنجاز الكبير.
رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك، في حديثه بالقضارف، قال إن الشراكة بين المكونيين العسكري والمدني، جنبت السودان الانهيار والتشرذم والاقتتال الأهلي، نقول إن الشراكات بين القطاعين الحكومي والأهلي التي تجسدت في إنجاز هذا العمل يمكنها أن تنجز الكثير إن خلصت النوايا.

قد يعجبك ايضا
الموجز السوداني
error: Content is protected !!