وكالات- الموجز السوداني
تُشكِّل إثيوبيا قوة مهمة في القرن الأفريقي، تضم منظمات إقليمية عدة تعمل على حل مشاكل القارة، لكنها لا تخلو أيضاً من الأزمات الداخلية ومع دول الجوار. وحتى لا تواجه مصيراً تجرها إليه هذه الأزمات، حرصت إثيوبيا على إجراء انتخابات برلمانية هي السادسة منذ إطاحة نظام منغستو هايلي ميريام العسكري في عام 1991، والأولى في عهد رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد. وفي وقتٍ تعاني فيه داخلياً من تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، بالإضافة إلى التركيز الدولي عليها بسبب قضايا سد النهضة وحرب إقليم تيغراي، تواجه إثيوبيا إقليمياً تحدياً مماثلاً، خصوصاً مع السودان في هاتين القضيتين وتأثيرهما المباشر في العلاقات بين البلدين. هاتان القضيتان وغيرهما، ليست وليدة عهد آبي أحمد ولكن تفجرّها في عهده حولته من خانة الصداقة إلى الخصومة، وربما تمتد هذه الأجواء المتوترة المخيِّمة على العلاقات بين البلدين، في حال فوزه المُحتمل بولاية ثانية، الأمر الذي يبدو مرجحاً بعد ما حققه أحمد في الانتخابات البرلمانية، بفوزه بعضوية البرلمان في دائرته الانتخابية “بشاشا” بإقليم أوروميا، على الرغم من احتمالات حدوث احتقان في المناطق التي استُثنيت من التصويت، وشكوى أحزاب المعارضة من أن السلطات مارست حملات قمعٍ أعاقت تحضيرها الانتخابات. هذا الفوز ربما يحمل تبعاتٍ أخرى تنعكس على العلاقات مع السودان ضمن التأثيرات الإقليمية ولكن بصورة أكثر خصوصية.
توازنات إقليمية
تغيرت النظرة الاستراتيجية لإثيوبيا بعد تغيّر التوازنات الإقليمية خلال العقد الماضي، وهي تغيرات صاحبت تعيين آبي أحمد منذ ثلاث سنوات في 27 مارس (آذار) 2018، كأول رئيس وزراء من عرقية أورومو. وانعكس ذلك على استراتيجيتها المتعلقة بالأرض والمياه، فالأمر ليس اقتصادياً فقط وإنما له مقومات وأبعاد أخرى هي في مجملها عبارة عن تصور توسعي، بدأه بإجراء إصلاحات داخلية واسعة سياسية واقتصادية، وإجراء تغييرات في رئاسة الجيش والأمن والمخابرات وتمكين النساء وغيرها. ثم مبادرته التي انتهت بتوقيع اتفاقية السلام والتصالح مع إريتريا في 16 سبتمبر (أيلول) 2018، وحصل بعد ذلك على جائزة نوبل للسلام لعام 2019.
وإذا كان لا بد من تقييم السياسة الخارجية الإثيوبية في ظل حكم آبي أحمد وتوجهاتها مع الأدوات التي يمكن أن تستخدمها من أجل تنفيذ تصور توسعي، فلا يمكن تجاوز حقيقة أن الخرطوم وأديس أبابا عاشتا في توافق حينما اتسم نظاماهما بالتمايز السياسي، إذ كان يحكم السودان نظام شمولي وإثيوبيا ديمقراطية شكلية. ومع أنه لا ضامن لتوفّر انسجام متكامل بين توجهات آبي أحمد والأدوات التي يمكن أن يستخدمها، فإن الأوضاع الإقليمية الحالية تضمن له الاستمرار حتى لو حدثت تغيرات دينامية. فإن ما أثبته من قدرة على التكيّف مع المتغيرات مثل انفجار حرب التيغراي وإدارة الصراع الحدودي مع السودان وأزمة سد النهضة، أظهر عنصر القوة لديه. وتبثّ تلك الملفات طاقة شعبية داخلية إيجابية في مجملها، بخاصة في ما يتعلق بالسد والحدود. أما حربه مع إقليم تيغراي فتنحصر آثارها السلبية على القومية التي تحمل الاسم ذاته، بينما جلب له الدعم السياسي من قوميته والقوميات الحليفة، شعبيةً واسعةً ظهرت بفوز حزبه في الانتخابات البرلمانية.
أوجه الشبه والاختلاف
بعد قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، أثّر التحول السياسي في السودان في إثيوبيا، إذ أصبح محط أنظار الدول الغربية وقِبلة قادته بعد مقاطعة استمرت لعقود، أملاً في أن يكون له شأنٌ مكمل للدورَين الإثيوبي والمصري. وكانت هذه الفكرة تراود الغرب عموماً قبل نشوء أزمة سد النهضة، وكان العائق أمامها وجود نظام إسلامي منبوذ دولياً في السودان، جرَّ الدولة إلى أن تُصنَّف راعية للإرهاب. وفي حال وصل السودان إلى حالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي قد تؤهله للعب دورٍ مقارب لإثيوبيا، فذلك من شأنه أن يهدد أديس أبابا كقوة إقليمية، وموطن للاتحاد الأفريقي والمنظمات الإقليمية، بالإضافة إلى تعاونها المُقدَّر بقواتها في بعثات حفظ السلام في الصومال وجنوب السودان ومنطقة أبيي الغنية بالنفط، إذ طالبت الخرطوم الأمم المتحدة في أبريل (نيسان) الماضي بإبعاد الجنود الإثيوبيين الموجودين ضمن بعثة “اليونسفا” واستبدال قوات من جنسية أخرى بهم، وذلك رداً على التعنت الإثيوبي بشأن سد النهضة واحتشاد القوات الإثيوبية على الحدود السودانية. وردت إثيوبيا باستبعاد مراقبين سودانيين ضمن بعثة منظمة “إيساف” لمراقبة انتخاباتها الأخيرة، ثم منعت ممثل السودان من حضور مؤتمر إقليمي على أراضيها لمناقشة تعزيز مشاركة القادة الشباب في دعم السلام والاستقرار وحماية البيئة.
يتشابه السودان وإثيوبيا في أنهما يقبعان تحت سطوة العنف القبلي والثوري، غير أن أديس أبابا وعلى الرغم من المآخذ على نظامها، تتقدم على السودان اقتصادياً وسياسياً، واستطاعت رغم التوترات أن تضمن إجراء انتخابات. وهناك الفساد وانعدام الاستقرار السياسي وافتقار التجربة في البلدين إلى ديمقراطية حقيقية، مع ديمقراطية نسبية في إثيوبيا. في ظل هذه الأزمات التي لا تحلها النُظم في أي بلد، مهما كانت ديمقراطية، ترى كل دولة الأخرى عدواً لها، بينما كانت هناك من قبل مصالح مُشتركة.
أما الاختلافات الرئيسة في البلدين، فمنها أن آبي أحمد منذ تأسيسه “حزب الازدهار” بعد حل “ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية” في عام 2019، سعى إلى تقليص الفيدرالية الإثنية. وقد تؤدي هذه الانتخابات إلى تغيير ميزان القوى لصالح رؤية آبي أحمد ضد رؤية الأحزاب التي تؤيد القومية الإثنية وتسعى إلى تقرير المصير. ولكن السودان ينتهج نهجاً معاكساً بتركيزه على الفيدرالية السياسية القائمة على أساس إثني، ما قد يقود الدولة إلى أن تصبح دويلات عدة.
على عكس موقفها الأول، فإن الدول الغربية التي وقفت إلى جانب آبي أحمد في بداية قيامه بالإصلاحات، وجهت بعدها انتقاداتها إليه بسبب تصاعد العنف. وهذا يحرك الأنظار مباشرة إلى جهة السودان الذي حصد في الوقت ذاته إشادات تتعلق بالإصلاحات القانونية وحقوق الإنسان وتوقيع اتفاقات السلام مع الحركات المسلحة.
من جانب القوى الدولية التي ترتبط بعلاقات سياسية واقتصادية مشتركة مع البلدين، وأبرزها الصين، فمع أنها لم تُبدِ انحيازاً كاملاً لأي طرف في النزاع حول سد النهضة، يمكن ملاحظة وقوفها عند النقطة الأقرب إلى الموقف الإثيوبي، ويتضح ذلك من تصريحها في جلسة مجلس الأمن الاستثنائية حول تلك القضية، إذ ذكرت أنها “تولي السد أهميةً قصوى، وتقدّر توقيع الدول الثلاث على إعلان المبادئ، كما تثمّن الدور الذي لعبه الاتحاد الأفريقي في هذا الصدد”. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتفاق حول إعلان المبادئ الذي وُقّع في الخرطوم، في 23 مارس (آذار) 2015 بين السودان ومصر وإثيوبيا، تضمن المبادئ الأساسية التي تتسق مع مبادئ القانون الدولي، الناظمة للتعامل مع الأنهار الدولية، من منظور علاقتها بسد النهضة وتأثيراته المحتملة على دولتَي المصبّ (مصر والسودان) وليس من منظور تنظيم استخدامات مياه النيل. ومعلومٌ أن البنود الخاصة بقواعد ملء وتشغيل السد كانت هلامية مثل: التعاون وبناء الثقة وأمان السد، ولم تكن فنية للتعهد بما تعكسه الدراسات المقدمة من جانب واحد هو إثيوبيا.
ويمكن قراءة دخول الصين على الخط الإثيوبي متزامناً مع انسحابها التدريجي من السودان، الذي بدأ منذ انفصال جنوب السودان وذهاب ما يُقدَّر بنحو 75 في المئة من النفط إلى دولة الجنوب، ومطالبتها الخرطوم بمديونيتها السابقة بعد سقوط النظام السابق. في المقابل، اتجهت بكين بقوة إلى الاستثمار في الخطط التي وضعها آبي أحمد لإثيوبيا، والتي يتوقع استمرارها في ولايته الثانية، في حال فوزه، لتركّز استثماراتها في واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا، يساعدها على ذلك مقدرتها وخبرتها في العمل في الدول الأفريقية في أوضاع غير مستقرة تقلق المستثمرين الآخرين.
سيناريوهات مُحتملة
هذه التغيرات الجدية وأوجه التنافس بين البلدين وانعكاساتها ربما تقود إلى سيناريوهات مُحتملة. أولاً، سيستمر آبي أحمد في فرض سياسة الأمر الواقع في ما يتعلق بسد النهضة، على دولتَي المصب، بما في ذلك إلغاء اتفاقية مياه النيل لعام 1959، وتقسيمها الحصص المائية بنحو 18.5 مليار متر مكعب للسودان و55.5 مليار متر مكعّب لمصر. ويتفق السواد الأعظم من الشعب الإثيوبي مع رئيس وزرائهم، وظهر ذلك في الوقفة الشعبية للدعم المالي للسد، بعد أن رفض البنك الدولي تقديم الدعم لإثيوبيا حين ربط الموافقة على تمويل السد بفتح حوار بنّاء مع دول الجوار بشأن تقاسم المياه.
ثانياً، لم تكن النبرة الإثيوبية المنتقدة مواقف دول الجوار، تحديداً السودان، بهذا الوضوح، وربما مهدت قضية السد لاستخدامها كأداة للهيمنة وبسط النفوذ إقليمياً، ليس ضد القاهرة والخرطوم وحدهما ولكن التلويح بها للدول الجارة الأخرى. ومن ذلك ما اتضح في موقف كينيا مثلاً في جلسة مجلس الأمن الأخيرة، إذ لم تكن مؤيدة لطرف أو معترضة على آخر، وإنما اتخذت موقفاً توافقياً لا يتناسب مع التقارب المصري – الكيني في الفترة الأخيرة، إذ قال مندوب كينيا في مجلس الأمن إن “قلق مصر والسودان بشأن أضرار سد النهضة الإثيوبي مشروع”، ثم دعا إلى عودة التفاوض في إطار الاتحاد الأفريقي.
ثالثاً، بعد إعلان الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي سيطرتها على ميكيلي عاصمة الإقليم في 28 يونيو (حزيران) الماضي، سيحاول آبي أحمد اكتساب قوة إضافية لمواجهة مناطق أخرى قابلة للصراع قد يغريها انتصار التيغراي. ولن يتردد الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في بذل المزيد من التعاون مع حليفه الجديد آبي أحمد، بعد اعتراف الأخير نتيجة ضغوط أميركية بوجود القوات الإريترية في تيغراي. كما أن اعتماد أحمد على قومية الأمهرا التي شكلت رافعة سياسية مهمة له بعد انسحاب قوميته الأورومو جزئياً من تأييده، كما تخدم سياسته الفيدرالية من ناحية أخرى. كما أن الاستقواء المُتبادل بين الطرفين سيزيد من تصاعد التوتر في الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا التي تنشط فيها عصابات “الشفتة” التابعة لقومية الأمهرا.