التسول في الخرطوم.. ظاهرة تعكس غياب الرعاية الحكومية
منتعلًا حذاءً أكل عليه الدهر يطوف الرجل الستيني بين السيارات التي توقفت في إشارة المرور وسط العاصمة السودانية الخرطوم،
ملحًا في طلب المساعدة على مواجهة ظروفه المعيشية، بينما اقتصرت مهمة الطفل الذي كان يقود هذا المُسن الأعمى في اختيار السيارات الحديثة نسبيًا
بنظرة سريعة يطوف الطفل على وجوه السائقين وفي ثوانٍ قليلة يقرر اختيار السائق الذي قد يتعاطف معهما هو والرجل من خلفه.. يطرقان زجاج السيارة؛ البعض يضع نقودًا بين أيدي المُسن وآخرون لا يكترثون
ينتشر المتسولون والمشردون على التقاطعات الرئيسية وإشارات المرور للتسول من سائقي السيارات، وهي ظاهرة تمددت في الأعوام الأخيرة
ويقول مسؤولون إن غالبيتهم جُلبوا من بعض الدول المجاورة عبر منظمات تعمل في هذا المجال.
وبحسب وسائل إعلام محلية، قال مسؤول بوزارة التنمية الاجتماعية الاتحادية الأربعاء الماضي إن هناك توجيهات “سيادية” بإخلاء
وسط العاصمة السودانية من المتسولين والمشردين في خطوة قد تهدف إلى مكافحة هذه الظاهرة التي ازدادت في الأعوام الأخيرة.
لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المتسولين والمشردين في شوارع العاصمة الخرطوم، لكن المؤكد أن أعدادهم تجاوزت عشرات الآلاف في بلد يعاني من مشكلة ضبط الحدود وتفشي البطالة
ولا تخص ظاهرة التسول السودان وحده، بل هي منتشرة في بلدان عديدة خاصة الشرق الأوسط وأفريقيا نتيجة الحروب والأزمات الاقتصادية والدوافع المتعلقة بالهجرة وتحسين فرص الحياة.
ولم تكلل المحاولات الحكومية بالقضاء على هذه الظاهرة خلال السنوات الماضية بالنجاح. وصرح مسؤولون سودانيون إن مكافحة التسول في الشوارع تنتهي إلى نقطة جديدة بتوافد أعداد جديدة من المتسولين من دول الجوار
ويقول الباحث الاجتماعي أيمن حسن لـ”الترا سودان” إن القضاء على ظاهرة التسول والتشرد “عملية صعبة” بالنسبة لحكومة تعاني من أزمة اقتصادية ونقص في البنى التحتية لإيواء الآلاف من المتشردين.
وأشار أيمن إلى أن الإجراءات الحكومية تقتصر على فتح البلاغات وفرض الغرامات، لافتًا إلى ارتباط مكافحة ظاهرة التسول والتشرد بـ”السياسات العليا للدولة” ضمن خطط مكافحة الفقر والتنمية وضبط الحدود وتأهيل المؤسسات الأمنية والمدنية. “لا يقتصر التسول والتشرد على الأجانب فقط، فالآلاف من أطراف المدن والقرى يمتهنون التسول في المدن، خاصةً مع اشتداد الفقر والنزاعات الأمنية التي تسفر عن نزوح مئات الآلاف سنويًا” – يضيف أيمن حسن.
“من هنا خرجوا للتسول” – قال الباحث الاقتصادي محمد عبدالرحمن وهو يشير إلى تمدد المباني الزجاجية وسط العاصمة الخرطوم، لافتًا إلى أن عقود من تجاهل العدالة الاجتماعية أدت إلى توافد الآلاف إلى قلب العاصمة للتسول والبقاء بلا مأوى تحت رحمة التسول.
ويقلل عبدالرحمن من نجاعة الإجراءات الحكومية، ويبيّن أن هذه الإجراءات تحتاج إلى عزيمة حكومية يقول إنها “غير متوفرة في الوقت الراهن” لأن المؤسسات المدنية “مهترئة” وغير قادرة على تسيير شؤونها خاصة المؤسسات التي لا تعمل في قطاع الإيرادات المالية – وفقًا لعبدالرحمن. ويتساءل: “مؤسسة اجتماعية معنية بمكافحة التسول والتشرد كيف لها أن تحصل على التمويل؟ وإذا توفرت لديها الأموال من أين لها بالكوادر المؤهلة لتنفيذ مشاريع تجفيف التشرد والتسول
ويضيف محمد عبدالرحمن: “إذا جُمع الآلاف من المتسولين والمشردين ونقلوا إلى مخيمات ووفر لهم الطعام والملجأ في نهاية المطاف
سيعودون إلى الشوارع للتسول”. “إنها مشكلة غير قابلة للحل على المدى القريب” – يؤكد عبدالرحمن.
على رصيف محاصر بمياه الصرف الصحي المُنفجر من شبكة قديمة وسط العاصمة السودانية تمرر سيدة خمسينية “روشتة طبية” على الجالسين حول بائعة شاي، طالبةً المساعدة في شراء الأدوية.
البعض يتبرع بأوراق نقدية من الفئات الصغيرة وآخرون يديرون وجوههم إلى الناحية الأخرى بدلًا عن رفض طلبها علنًا.
في المركز التجاري الذي يتوسط العاصمة الخرطوم في “السوق العربي” تتحلق حوله عشرات السيارات، يلوّح الأطفال للسائقين بالتوقف؛ والغرض غسل السيارة خلال الساعات التي سيبددها صاحب العربة في إنجاز المهام التي جاءت به إلى قلب الخرطوم
قبل سنين، كانت الشرطة تنفذ حملات لجمع المتسولين في شاحنات ونقلهم إلى مراكز حكومية، لكن يبدو أن هذه الإجراءات لم تكن ناجعة للقضاء على هذه الظاهرة. وإلى جانب ذلك فإن المختصين يقولون إن المؤسسات الاجتماعية تعمل في “حدود ضيقة” لتسيير العمل وغير قادرة على إطلاق مشاريع في هذا الصدد